تابع للجزء الأول...
********
ما معنى هذا الذي رأيته؟
إن هذا المشهد لم يحدث قط.. فهل هذه المرآة تتنبأ؟.. إن كل شيء يؤكد ذلك.. لكن كيف؟ وكيف يتبدل الملاك الرقيق هاني إلى شيطان يضرب النساء؟.. ومتى سيحدث ذلك؟
أنا واثقة أن المستقبل لا يمكن التنبؤ به.. لكن ما هذا الذي رأيت؟
هل هو كابوس لا أكثر سببه توتري وخشيتي على مستقبل أختي؟ لن أدري أبداً
لكن فكرة لا بأس بها خطرت لي
سأعلق تقويماً على الجدار المقابل للمرآة لتنعكس صورته على زجاجها
وهكذا.. لو شاهدت مرة أخرى مشهداً مستقبلياً.. أمكنني أن أعرف تاريخه التقريبي بمجرد نظرة إلى التقويم المعلق خلف ذلك المشهد.. حتى ولو كان الرقم مقلوباً ولكنه مقروء
أحضرت مسماراً ومطرقة وصعدت على مقعد لأعلق التقويم, وهنا تذكرت شيئاً مرعباً
لقد كان هناك شيء يشبه التقويم معلقاً بالفعل على الحائط فوق رأس هويدا في المشهد الذي رأيته منذ دقائق.. لكنني لم أعبأ به كثيراً
أما الأغرب فحدث عندما عاد عادل من عمله..
لقد نال الترقية.. أخيراً.. إلى رتبة نقيب.. وكان سعيداً كالمهر الصغير
وقد اشترى لي هديةً لأنني.. كما قال.. زوجته الصابرة الباسلة
قال لي: لم أكن أعرف مقاييسك لكن البائعة كانت تماثلك حجماً وطولاً.. لهذا طلبت منها أن تنتقي ثوباً يناسبها هي
نظرت له في جزع.. وبشفتين مرتجفتين سألته: عادل.. هل هو ثوب أزرق ذو ياقة بيضاء؟
تبدلت نظرته الودود إلى دهشةٍ لا حد لها.. وسألني: وكيف عرفت؟
*******
صار الأمر شبه مؤكد بالنسبة لي خاصة حين علمت أن هويدا ابتاعت معطفاً أسوداً بعد يومين من هذا الحادث.. أي أن الأمر صار ممهداً تماماً للمشاجرة التي سيكشف فيها هاني عن أنياب شراسته
هل أنذرها؟.. لا أدري.. أنا متأكدة من استحالة التنبؤ.. لكن كيف تحتشد كل هذه المصادفات؟.. إن رأسي يكاد ينفجر حقاً.. وساعات أطول أقضيها أمام تلك المرآة اللعينة
ذات مرة شاهدت تلك المرأة جالسة أمام المرآة.. وكانت تتزين كعادتها على الجانب الآخر من الجدار الأمامي, ثم رأيت الرجل يدخل ويقف خلفها وتدور بينهما محادثة شبه غامضة, لم تدر رأسها نحوه لكني فهمت أنها تحدث انعكاسه في المرآة متعمدة تجاهله.. كان الرجل يلوح بخطاب معين ويزمجر.. وبدت هي مشدوهة لكنها تحاول التظاهر أنها أقوى
ثم.. تصلبت عيناها.. ورأيت الرجل يمد يده في جيب بدلته ويخرج مسدساً صغيراً جميل الشكل ويصوبه نحو رأسها.. و.. ذابت الصورة وعدت أرى انعكاس وجهي
كان وجهي – في المرآة – يضحك بخبث.. ثم.. غمزة ماكرة بالعين اليسرى جعلتني أقفز متراً إلى الوراء
لم أكن أنا صاحبة الغمزة.. وإلا فأنا على حافة الجنون ولا أدري شيئاً عن نفسي.. ما معنى هذا الذي رأيت؟
لا جدال هناك.. لقد رأيت شروعاً في جريمة قتل حدث في مكان ما من أربعينات هذا القرن
ولا يمكن أن تكون هذه الصورة وليدة عقلي الباطن
ولكن من قتل من؟
*******
بعد أيام فوجئت بمشهد أكثر غرابة
ذارت رمل وأحجار تملأ المشهد وتحيله ظلاماً تاماً.. لا شيء على الإطلاق يمكن تبينه أو استيضاحه.. فما معنى هذا؟
ثم عادت الصورة تعكس وجهي كالعادة
وهنا دق جرس الباب ..
لم يكن عادل في الدار بسبب استغراقه في إحدى المأموريات.. لذا ذهبت و فتحت الباب وكان القادمان هما هويدا و هاني.. هاني الوديع الرقيق الذي يتدفق حياء وبرغم هذا لم أستطع أن أستريح له.. لقد سمّمت هذه المرآة نظرتي له إلى الأبد, لقد قرأت كثيراً عن الأشخاص الودودين أكثر من اللازم, وهذا الخوف موجود في قصص كثيرة.. إن الساحرة تدعو هانز وجريتل إلى تناول الفطائر لأنها تريد التهامهما.. ساحر علاء الدين يتظاهر بأنه أصدق أصدقاء أبيه
علمونا هذا ونجن بعد أطفال, لهذا كنت على استعداد تام لأن أمقت هذا الفتى
الشيء الأسوأ هنا أن هويدا كانت ترتدي معطفها الأسود
جلست هويدا تشكو لي مضايقات البحث عن شقة.. وبدأت تلوم هاني على تراخيه, من ثم بدأ يحتد ويدافع عن نفسه بعصبية
إلى هنا – قلت لنفسي- ليس الموقف موقف صفعات.. ولن يزيد عن مشاجرة عادية.. لن يزيد عن ذلك أبداً
وهنا قالت هويدا في حنق: دعينا من هذا البائس.. وحدثينا عن نفسك
هتف هاني: أنا بائس؟
كان الغضب يلتمع في عينه.. يا لكِ من معتوهة يا هويدا, إنها لا تعيره اهتماماً.. بل وتقول محاولةً تغيير الموضوع: أريد أن أرى الثوب الجديد الذي ابتاعه لك عادل
قلت: الـ...الثوب الأزرق..؟
قالت: نعم..نعم.. ذو الياقة البيضاء ... إرتديه ودعيني أراه عليك
هتفت: مســ.... مستحيل
كنت أدافع عن سعادة أختي وسعادتي.. لن يجرؤ مخلوق على إرغامي على ارتداء هذا الثوب, ولولا أنه هدية من عادل لحرقته ، إنها تلح.. الحمقاء.. لأنها لا تعلم شيئاً.. ولا تعلم أن هاني سيصفها أمامي بعد دقائق
وهنا لاحظت أن صورة المرآة تتبدل
لقد صرت مدربة تماماً على معرفة هذه اللحظات
لم يلاحظا قط أنني أنظر إلى المرآة لأنني لم أكف عن الكلام وأنا أرمقها بطرف عيني: إنه مغسول.. ثم إنه
رأيت صورة عادل يصيح في عصبية.. وأنا أردد شيئاً ما في هلع وأحاول منعه, ثم.. التقويم يشير إلى أن هذا سيحدث بعد أسبوع
.. ضيق جداً ولا يناسبني ..و -
عادل - في المرآة – يمد يده لجيبه ويخرج مسدسه ويصوبه نحوي
.. ولونه ليس .. -
وفقدت سيطرتي على أعصابي
انفجرت أبكي في حرقة.. حتى عادل أيضاً لن أثق فيه بعد اليوم.. وقد قالت المرآة أنه سيحاول قتلي ,هويدا وهاني يتساءلان في جزع عما دهاني ويطيبان خاطري, إن المرأة التي تبكي حين تتحدث عن ثوب جديد هي.. دون شك.. مصابة بالعته
حين انصرفا في النهاية كنت منهارةً تماماً .. و قررت أن أخبر عادل بكل شيء
*******
ما أرقك يا عادل
ربما تتقلب بنا الأيام وتولد خلافات لن نتوقعها
لكني سأظل مدينةً لك أبداً بالبساطة والتلقائية وقابلية التصديق التي أبديتها نحو كلماتي, لم يتهمك أحد قط بأنك مرهف الحس ولا أنك متفهم
لكنك – من اجلي فقط – ارتكبت هذه الخطيئة: إظهار الحنان
نهض عادل إلى المرآة وتفحصها في شك, ثم أشعل سيجارة وقال: أنت حمقاء يا سهام... إذ أنني بالتأكيد أتوق إلى خنقك لكني لن أطلق عليك الرصاص لأي سبب
ثم قلب إطار المرآة وتأمله: في البدء يجب أن نعرف ما إذا كانت هذه الرؤى خاصةً بك أم أنني قادر أيضاً على رؤيتها, ثم نحاول معرفة مصدر هذه المرآة
قلت في حذر محاولةً ألا أبدو حمقاء: عادل ..لماذا لم تتهمني بالخرف.. وبأن بقائي وحيدة في الدار قد أنهك اعصابي..؟
لأن هذا غير صحيح -
وهكذا.. مضت الساعات و عادل جالسٌ في مقعده يتأمل المرآة حتى أنني بدأت أفهم شكه في حالتي العقلية حين كنت مكانه
ساعة تلو الساعة يجلس في مقعده يدخن ويصغي للراديو
ولا بد أنها كانت الواحدة صباحاً حين سمعت صوته الملهوف يناديني, فهرعت حافية القدمين لأرى ما هنالك.. إلا أنني وجدت انعكاساً بريئاً لوجهينا على الزجاج, وقال عادل في ارتباك
وهو يخشى ألا أصدقه: لقد حدث... رأيت ... رأيت
قلت: نعم... ماذا رأيت؟
قال: رأيت فتاة شابة تنظر لي في ذهول وقد بدا أن الخوف يقتلها
سألته: وكيف كان طراز ثيابها ؟..
هرش رأسه في حيرة: لا أدري.. مثل أفلام الخمسينات .. تقريباً
قلت: إذن هي مالكة المرآة بعد الرجل والمرأة
نظر لي عادل بعينين زائغتين.. ثم قرر أن يواصل المشاهدة وأمرني أن أنام لأن سهرته ستمتد طويلاً
*******
حين صحوت في الصباح وجدته ما زال جالساً
كانت مطفأة السجائر طافحة بالأعقاب, وفي عينيه لمحت نظرة غريبة
نظرة شك لم أرها من قبل
سألته: عادل.. هل ثمة شيء جديد؟
نظر لي في شرود.. ثم هز رأسه أن لا, ونهض إلى غرفته ليرتدي ثيابه للذهاب للعمل طالباً مني أن أعد له فنجان قهوة
ولن تتناول إفطاراً؟ -لا -
قالها في عصبية لا مبرر لها, وانصرف تاركاً إياي غارقة في أفكار سوداء عن سر تبدل أطواره, إن الأمر يتعلق بالتأكيد بشيء رآه في المرآة في تلك الليلة فما هو؟
أستطيع أن أجبره على الكلام فيما بعد .. أما الآن فإن الدار متسخة كحظيرة جياد.. وعلي أن أنظف كل هذا
وهنا – اعترف – أقول إن تنظيف ما تحت السجاجيد ليس هوايةً محببةً لدي, ولربما فعلت ذلك كل شهرين مع الماء.. لكن الوقت قد حان لذلك اليوم
بدأت أقلب جوانب السجادة كاشفة عما تحتها حين وجدت الوريقة.. الوريقة القديمة التي دسها أحدهم في إطار المرآة وعجزت أنا عن فتحها ترى ما الموجود فيها؟
إن الأمر لم يثر اهتمامي يوم ابتعت المرآة, أما اليوم فالفضول يقتلني, أحضرت قطعتين من القطن وشرعت أحاول برفق فتح الورقة التي اهترأت تماماً من محاولتي الخرقاء الأولى, ها هو ذا شيء ما يتبدى لعيني.. كاتبة بحروف لاتينية.. بلغة لا أعرفها أنا لا أجيد سوى بعض الإنجليزية وأعرف الفرنسية من منظرها فقط.. لهذا فردت الورقة ودسستها تحت زجاج البوفيه حتى يحضرعادل.. وهنا دوى صوت الباب ينفتح
*******
دخل عادل في عصبية, وهز رأسه محيياً.. وتساءل: وحدك؟.. حسن .. إن معي بعض الزملاء.. أعدي لنا ثلاثة أكواب من الشاي.. شاي ثقيل
دخلت المطبخ لأشعل الموقد وأضع البراد حين سمعت صوت قرعات متتالية آتياً من الصالة, تسللت برأسي لأرى ما هنالك, فوجدت رجلاً ضخم الجثة.. واضح أنه مخبر.. يهوي فوق المرآة بمطرقة كبيرة محاولاً تهشيمها
إن أية مرآة تحترم نفسها تتهشم بعد ضربة واحدة أما هذه اللعينة فتحملت عشرات منها دون جدوى
تبادل عادل نظرات ذات مغزى مع رجل أشيب الشعر يقف بجواره ثم أخرج مسدسه وركب شيئاً طويلاً على فوهته فهمت أن هذا كاتم صوت لكي لا يفزع الجيران وصوبه نحو المرآة
دوت عدة طلقات مكتومة لكن شيئاً لم يحدث
ارتدت الطلقات متدحرجة على الأرض
ما رأيك يا د.سامي؟ -
سأل الرجل الأشيب.. فهز رأسه في حيرة.. ثم قال بصوت رزين: اقترح دفنها في هوة سحيقة بالجبل
وهنا صاح المخبر في هلع مشيراً إلى المرآة : إنها تضحك.. تضحك
خرجت من المطبخ لأرى ما هنالك.. كانت انعكاسات الوجوه في المرآة تشير لنا وتضحك في سخرية!.. إن فشلنا في تدميرها قد راق لها إلى أقصى حد, حتى أنها لم تعد تخفي ذلك
شرع المخبر يحوقل ويبسمل.. في حين ظل عادل يرمق المرآة في صرامة.. كانت لحيته نامية وإرهاق ليلة أمس مرتسماً على تجاعيد وجهه.. إلا أنه كان قد وصل لقراره.. وهتف آمراً: بيومي.. أحمل هذه المرآة وضعها في البوكس
وهنا أصدرت وسوسة بشفتي مناديةً عادل, فهرع ليرى ما بي وقد بدا عليه شيءٌ من الضيق لخروجي من المطبخ, قلت له هامسةً: من هؤلاء؟
رد: مخبر عندي وأستاذ أمراض نفسية من أصدقائي القدامى
سألته: وهل عرفت شيئاً عن المرآة؟
قال: وجدنا بائعك.. وعرفنا منه أنه ابتاع المرآة من مخلفات بيت مهندس ري.. وكان قد ابتاعها من مزاد صودرت فيه أملاك أحد أعيان ما قبل الثورة .. والملاحظ هنا
قاطعته: ماذا؟
قال: كل من امتلكوا هذه المرآة قتلوا أو انتحروا .. كلهم.. لقد جلبت هذه المرآة الخراب لبيوت عدة
قلت: وهل رأيت شيئاً أمس؟
احمر وجهه وهمس في ضيق: أشياء مشينةٌ.. بخصوصك, إن هذه المرآة اللعينة كانت تبذر الشك في نفسي اتجاهك طيلة الليل
قلت: ولهذا جئت على غير موعد وسألت إن كنت وحدي؟
نظر لي في حيرة.. ولم يرد.. ثم أنه أدار ظهره ليلحق بالرجلين لولا أن ناديته مرةً أخرى : عادل ..الورقة تحت زجاج البوفيه كانت في المرآة ... لا أدري بأي لغةٍ كتبت
اتجه على الفور ومد أظافره ليخرج الورقة
ثم إنه نادى الرجل الأشيب وشرعا يتفحصانها, هتف الرجل في ثقةٍ وهو يتأمل الورقة: لاتينية.. لغة لاتينية.. أنا أقرؤها إلى حد ما.. فلنر ذلك.. الشيطان يسكن هـ... هذه المرآة...لا... لا تصدقوا ما... منه ... ترونه منه
ثم رفع رأسه مردداً العبارة كاملةً: إن الشيطان يسكن هذه المرآة فلا تصدقوا ما يريه لكم
نظر له عادل في حيرة.. وهمس: ومن تظنه كتبها؟
أجابه: لن نعرف أبداً.. لكنه كان صادقاً.. هذه المرآة تعابث من يملكها وتريه أحداثاً من الماضي وأحداثاً كاذبة من المستقبل.. وبالتالي تختلط عليه الحقائق ويجن أو يؤذي أحباءه, على أنها كانت صادقةً في نبوءة واحدة
قال: وما هي؟
قال د.سامي: منظر الأحجار الذي ملأ صورتها.. كانت تعرف تماماً أنها ستنهي حياتها دفينة في الجبل بين الصخور.. وهو عقاب تستحقه تماماً
قال عادل: إذن فلنسرع بإنهاء هذه المأساة
وسمعت جلبتهم إذ ينصرفون
وسمعت انغلاق الباب
فخرجت وحدي إلى الصالة انظر إلى الركن الفارغ الذي احتلته المرآة لشهر كامل .. الركن الذي غدا بالتدريج أهم أركان الدار.. فشعرت بحنين لا يمكن تبريره
هل أنا حقاً عاطفية وحمقاء إلى هذا الحد؟
********
ما معنى هذا الذي رأيته؟
إن هذا المشهد لم يحدث قط.. فهل هذه المرآة تتنبأ؟.. إن كل شيء يؤكد ذلك.. لكن كيف؟ وكيف يتبدل الملاك الرقيق هاني إلى شيطان يضرب النساء؟.. ومتى سيحدث ذلك؟
أنا واثقة أن المستقبل لا يمكن التنبؤ به.. لكن ما هذا الذي رأيت؟
هل هو كابوس لا أكثر سببه توتري وخشيتي على مستقبل أختي؟ لن أدري أبداً
لكن فكرة لا بأس بها خطرت لي
سأعلق تقويماً على الجدار المقابل للمرآة لتنعكس صورته على زجاجها
وهكذا.. لو شاهدت مرة أخرى مشهداً مستقبلياً.. أمكنني أن أعرف تاريخه التقريبي بمجرد نظرة إلى التقويم المعلق خلف ذلك المشهد.. حتى ولو كان الرقم مقلوباً ولكنه مقروء
أحضرت مسماراً ومطرقة وصعدت على مقعد لأعلق التقويم, وهنا تذكرت شيئاً مرعباً
لقد كان هناك شيء يشبه التقويم معلقاً بالفعل على الحائط فوق رأس هويدا في المشهد الذي رأيته منذ دقائق.. لكنني لم أعبأ به كثيراً
أما الأغرب فحدث عندما عاد عادل من عمله..
لقد نال الترقية.. أخيراً.. إلى رتبة نقيب.. وكان سعيداً كالمهر الصغير
وقد اشترى لي هديةً لأنني.. كما قال.. زوجته الصابرة الباسلة
قال لي: لم أكن أعرف مقاييسك لكن البائعة كانت تماثلك حجماً وطولاً.. لهذا طلبت منها أن تنتقي ثوباً يناسبها هي
نظرت له في جزع.. وبشفتين مرتجفتين سألته: عادل.. هل هو ثوب أزرق ذو ياقة بيضاء؟
تبدلت نظرته الودود إلى دهشةٍ لا حد لها.. وسألني: وكيف عرفت؟
*******
صار الأمر شبه مؤكد بالنسبة لي خاصة حين علمت أن هويدا ابتاعت معطفاً أسوداً بعد يومين من هذا الحادث.. أي أن الأمر صار ممهداً تماماً للمشاجرة التي سيكشف فيها هاني عن أنياب شراسته
هل أنذرها؟.. لا أدري.. أنا متأكدة من استحالة التنبؤ.. لكن كيف تحتشد كل هذه المصادفات؟.. إن رأسي يكاد ينفجر حقاً.. وساعات أطول أقضيها أمام تلك المرآة اللعينة
ذات مرة شاهدت تلك المرأة جالسة أمام المرآة.. وكانت تتزين كعادتها على الجانب الآخر من الجدار الأمامي, ثم رأيت الرجل يدخل ويقف خلفها وتدور بينهما محادثة شبه غامضة, لم تدر رأسها نحوه لكني فهمت أنها تحدث انعكاسه في المرآة متعمدة تجاهله.. كان الرجل يلوح بخطاب معين ويزمجر.. وبدت هي مشدوهة لكنها تحاول التظاهر أنها أقوى
ثم.. تصلبت عيناها.. ورأيت الرجل يمد يده في جيب بدلته ويخرج مسدساً صغيراً جميل الشكل ويصوبه نحو رأسها.. و.. ذابت الصورة وعدت أرى انعكاس وجهي
كان وجهي – في المرآة – يضحك بخبث.. ثم.. غمزة ماكرة بالعين اليسرى جعلتني أقفز متراً إلى الوراء
لم أكن أنا صاحبة الغمزة.. وإلا فأنا على حافة الجنون ولا أدري شيئاً عن نفسي.. ما معنى هذا الذي رأيت؟
لا جدال هناك.. لقد رأيت شروعاً في جريمة قتل حدث في مكان ما من أربعينات هذا القرن
ولا يمكن أن تكون هذه الصورة وليدة عقلي الباطن
ولكن من قتل من؟
*******
بعد أيام فوجئت بمشهد أكثر غرابة
ذارت رمل وأحجار تملأ المشهد وتحيله ظلاماً تاماً.. لا شيء على الإطلاق يمكن تبينه أو استيضاحه.. فما معنى هذا؟
ثم عادت الصورة تعكس وجهي كالعادة
وهنا دق جرس الباب ..
لم يكن عادل في الدار بسبب استغراقه في إحدى المأموريات.. لذا ذهبت و فتحت الباب وكان القادمان هما هويدا و هاني.. هاني الوديع الرقيق الذي يتدفق حياء وبرغم هذا لم أستطع أن أستريح له.. لقد سمّمت هذه المرآة نظرتي له إلى الأبد, لقد قرأت كثيراً عن الأشخاص الودودين أكثر من اللازم, وهذا الخوف موجود في قصص كثيرة.. إن الساحرة تدعو هانز وجريتل إلى تناول الفطائر لأنها تريد التهامهما.. ساحر علاء الدين يتظاهر بأنه أصدق أصدقاء أبيه
علمونا هذا ونجن بعد أطفال, لهذا كنت على استعداد تام لأن أمقت هذا الفتى
الشيء الأسوأ هنا أن هويدا كانت ترتدي معطفها الأسود
جلست هويدا تشكو لي مضايقات البحث عن شقة.. وبدأت تلوم هاني على تراخيه, من ثم بدأ يحتد ويدافع عن نفسه بعصبية
إلى هنا – قلت لنفسي- ليس الموقف موقف صفعات.. ولن يزيد عن مشاجرة عادية.. لن يزيد عن ذلك أبداً
وهنا قالت هويدا في حنق: دعينا من هذا البائس.. وحدثينا عن نفسك
هتف هاني: أنا بائس؟
كان الغضب يلتمع في عينه.. يا لكِ من معتوهة يا هويدا, إنها لا تعيره اهتماماً.. بل وتقول محاولةً تغيير الموضوع: أريد أن أرى الثوب الجديد الذي ابتاعه لك عادل
قلت: الـ...الثوب الأزرق..؟
قالت: نعم..نعم.. ذو الياقة البيضاء ... إرتديه ودعيني أراه عليك
هتفت: مســ.... مستحيل
كنت أدافع عن سعادة أختي وسعادتي.. لن يجرؤ مخلوق على إرغامي على ارتداء هذا الثوب, ولولا أنه هدية من عادل لحرقته ، إنها تلح.. الحمقاء.. لأنها لا تعلم شيئاً.. ولا تعلم أن هاني سيصفها أمامي بعد دقائق
وهنا لاحظت أن صورة المرآة تتبدل
لقد صرت مدربة تماماً على معرفة هذه اللحظات
لم يلاحظا قط أنني أنظر إلى المرآة لأنني لم أكف عن الكلام وأنا أرمقها بطرف عيني: إنه مغسول.. ثم إنه
رأيت صورة عادل يصيح في عصبية.. وأنا أردد شيئاً ما في هلع وأحاول منعه, ثم.. التقويم يشير إلى أن هذا سيحدث بعد أسبوع
.. ضيق جداً ولا يناسبني ..و -
عادل - في المرآة – يمد يده لجيبه ويخرج مسدسه ويصوبه نحوي
.. ولونه ليس .. -
وفقدت سيطرتي على أعصابي
انفجرت أبكي في حرقة.. حتى عادل أيضاً لن أثق فيه بعد اليوم.. وقد قالت المرآة أنه سيحاول قتلي ,هويدا وهاني يتساءلان في جزع عما دهاني ويطيبان خاطري, إن المرأة التي تبكي حين تتحدث عن ثوب جديد هي.. دون شك.. مصابة بالعته
حين انصرفا في النهاية كنت منهارةً تماماً .. و قررت أن أخبر عادل بكل شيء
*******
ما أرقك يا عادل
ربما تتقلب بنا الأيام وتولد خلافات لن نتوقعها
لكني سأظل مدينةً لك أبداً بالبساطة والتلقائية وقابلية التصديق التي أبديتها نحو كلماتي, لم يتهمك أحد قط بأنك مرهف الحس ولا أنك متفهم
لكنك – من اجلي فقط – ارتكبت هذه الخطيئة: إظهار الحنان
نهض عادل إلى المرآة وتفحصها في شك, ثم أشعل سيجارة وقال: أنت حمقاء يا سهام... إذ أنني بالتأكيد أتوق إلى خنقك لكني لن أطلق عليك الرصاص لأي سبب
ثم قلب إطار المرآة وتأمله: في البدء يجب أن نعرف ما إذا كانت هذه الرؤى خاصةً بك أم أنني قادر أيضاً على رؤيتها, ثم نحاول معرفة مصدر هذه المرآة
قلت في حذر محاولةً ألا أبدو حمقاء: عادل ..لماذا لم تتهمني بالخرف.. وبأن بقائي وحيدة في الدار قد أنهك اعصابي..؟
لأن هذا غير صحيح -
وهكذا.. مضت الساعات و عادل جالسٌ في مقعده يتأمل المرآة حتى أنني بدأت أفهم شكه في حالتي العقلية حين كنت مكانه
ساعة تلو الساعة يجلس في مقعده يدخن ويصغي للراديو
ولا بد أنها كانت الواحدة صباحاً حين سمعت صوته الملهوف يناديني, فهرعت حافية القدمين لأرى ما هنالك.. إلا أنني وجدت انعكاساً بريئاً لوجهينا على الزجاج, وقال عادل في ارتباك
وهو يخشى ألا أصدقه: لقد حدث... رأيت ... رأيت
قلت: نعم... ماذا رأيت؟
قال: رأيت فتاة شابة تنظر لي في ذهول وقد بدا أن الخوف يقتلها
سألته: وكيف كان طراز ثيابها ؟..
هرش رأسه في حيرة: لا أدري.. مثل أفلام الخمسينات .. تقريباً
قلت: إذن هي مالكة المرآة بعد الرجل والمرأة
نظر لي عادل بعينين زائغتين.. ثم قرر أن يواصل المشاهدة وأمرني أن أنام لأن سهرته ستمتد طويلاً
*******
حين صحوت في الصباح وجدته ما زال جالساً
كانت مطفأة السجائر طافحة بالأعقاب, وفي عينيه لمحت نظرة غريبة
نظرة شك لم أرها من قبل
سألته: عادل.. هل ثمة شيء جديد؟
نظر لي في شرود.. ثم هز رأسه أن لا, ونهض إلى غرفته ليرتدي ثيابه للذهاب للعمل طالباً مني أن أعد له فنجان قهوة
ولن تتناول إفطاراً؟ -لا -
قالها في عصبية لا مبرر لها, وانصرف تاركاً إياي غارقة في أفكار سوداء عن سر تبدل أطواره, إن الأمر يتعلق بالتأكيد بشيء رآه في المرآة في تلك الليلة فما هو؟
أستطيع أن أجبره على الكلام فيما بعد .. أما الآن فإن الدار متسخة كحظيرة جياد.. وعلي أن أنظف كل هذا
وهنا – اعترف – أقول إن تنظيف ما تحت السجاجيد ليس هوايةً محببةً لدي, ولربما فعلت ذلك كل شهرين مع الماء.. لكن الوقت قد حان لذلك اليوم
بدأت أقلب جوانب السجادة كاشفة عما تحتها حين وجدت الوريقة.. الوريقة القديمة التي دسها أحدهم في إطار المرآة وعجزت أنا عن فتحها ترى ما الموجود فيها؟
إن الأمر لم يثر اهتمامي يوم ابتعت المرآة, أما اليوم فالفضول يقتلني, أحضرت قطعتين من القطن وشرعت أحاول برفق فتح الورقة التي اهترأت تماماً من محاولتي الخرقاء الأولى, ها هو ذا شيء ما يتبدى لعيني.. كاتبة بحروف لاتينية.. بلغة لا أعرفها أنا لا أجيد سوى بعض الإنجليزية وأعرف الفرنسية من منظرها فقط.. لهذا فردت الورقة ودسستها تحت زجاج البوفيه حتى يحضرعادل.. وهنا دوى صوت الباب ينفتح
*******
دخل عادل في عصبية, وهز رأسه محيياً.. وتساءل: وحدك؟.. حسن .. إن معي بعض الزملاء.. أعدي لنا ثلاثة أكواب من الشاي.. شاي ثقيل
دخلت المطبخ لأشعل الموقد وأضع البراد حين سمعت صوت قرعات متتالية آتياً من الصالة, تسللت برأسي لأرى ما هنالك, فوجدت رجلاً ضخم الجثة.. واضح أنه مخبر.. يهوي فوق المرآة بمطرقة كبيرة محاولاً تهشيمها
إن أية مرآة تحترم نفسها تتهشم بعد ضربة واحدة أما هذه اللعينة فتحملت عشرات منها دون جدوى
تبادل عادل نظرات ذات مغزى مع رجل أشيب الشعر يقف بجواره ثم أخرج مسدسه وركب شيئاً طويلاً على فوهته فهمت أن هذا كاتم صوت لكي لا يفزع الجيران وصوبه نحو المرآة
دوت عدة طلقات مكتومة لكن شيئاً لم يحدث
ارتدت الطلقات متدحرجة على الأرض
ما رأيك يا د.سامي؟ -
سأل الرجل الأشيب.. فهز رأسه في حيرة.. ثم قال بصوت رزين: اقترح دفنها في هوة سحيقة بالجبل
وهنا صاح المخبر في هلع مشيراً إلى المرآة : إنها تضحك.. تضحك
خرجت من المطبخ لأرى ما هنالك.. كانت انعكاسات الوجوه في المرآة تشير لنا وتضحك في سخرية!.. إن فشلنا في تدميرها قد راق لها إلى أقصى حد, حتى أنها لم تعد تخفي ذلك
شرع المخبر يحوقل ويبسمل.. في حين ظل عادل يرمق المرآة في صرامة.. كانت لحيته نامية وإرهاق ليلة أمس مرتسماً على تجاعيد وجهه.. إلا أنه كان قد وصل لقراره.. وهتف آمراً: بيومي.. أحمل هذه المرآة وضعها في البوكس
وهنا أصدرت وسوسة بشفتي مناديةً عادل, فهرع ليرى ما بي وقد بدا عليه شيءٌ من الضيق لخروجي من المطبخ, قلت له هامسةً: من هؤلاء؟
رد: مخبر عندي وأستاذ أمراض نفسية من أصدقائي القدامى
سألته: وهل عرفت شيئاً عن المرآة؟
قال: وجدنا بائعك.. وعرفنا منه أنه ابتاع المرآة من مخلفات بيت مهندس ري.. وكان قد ابتاعها من مزاد صودرت فيه أملاك أحد أعيان ما قبل الثورة .. والملاحظ هنا
قاطعته: ماذا؟
قال: كل من امتلكوا هذه المرآة قتلوا أو انتحروا .. كلهم.. لقد جلبت هذه المرآة الخراب لبيوت عدة
قلت: وهل رأيت شيئاً أمس؟
احمر وجهه وهمس في ضيق: أشياء مشينةٌ.. بخصوصك, إن هذه المرآة اللعينة كانت تبذر الشك في نفسي اتجاهك طيلة الليل
قلت: ولهذا جئت على غير موعد وسألت إن كنت وحدي؟
نظر لي في حيرة.. ولم يرد.. ثم أنه أدار ظهره ليلحق بالرجلين لولا أن ناديته مرةً أخرى : عادل ..الورقة تحت زجاج البوفيه كانت في المرآة ... لا أدري بأي لغةٍ كتبت
اتجه على الفور ومد أظافره ليخرج الورقة
ثم إنه نادى الرجل الأشيب وشرعا يتفحصانها, هتف الرجل في ثقةٍ وهو يتأمل الورقة: لاتينية.. لغة لاتينية.. أنا أقرؤها إلى حد ما.. فلنر ذلك.. الشيطان يسكن هـ... هذه المرآة...لا... لا تصدقوا ما... منه ... ترونه منه
ثم رفع رأسه مردداً العبارة كاملةً: إن الشيطان يسكن هذه المرآة فلا تصدقوا ما يريه لكم
نظر له عادل في حيرة.. وهمس: ومن تظنه كتبها؟
أجابه: لن نعرف أبداً.. لكنه كان صادقاً.. هذه المرآة تعابث من يملكها وتريه أحداثاً من الماضي وأحداثاً كاذبة من المستقبل.. وبالتالي تختلط عليه الحقائق ويجن أو يؤذي أحباءه, على أنها كانت صادقةً في نبوءة واحدة
قال: وما هي؟
قال د.سامي: منظر الأحجار الذي ملأ صورتها.. كانت تعرف تماماً أنها ستنهي حياتها دفينة في الجبل بين الصخور.. وهو عقاب تستحقه تماماً
قال عادل: إذن فلنسرع بإنهاء هذه المأساة
وسمعت جلبتهم إذ ينصرفون
وسمعت انغلاق الباب
فخرجت وحدي إلى الصالة انظر إلى الركن الفارغ الذي احتلته المرآة لشهر كامل .. الركن الذي غدا بالتدريج أهم أركان الدار.. فشعرت بحنين لا يمكن تبريره
هل أنا حقاً عاطفية وحمقاء إلى هذا الحد؟
14/4/2012, 5:14 am من طرف h.sbaih
» تعلم تصميم قواعد البيانات SQL حصريا
2/4/2012, 3:57 pm من طرف hfoda102
» Assembly Lab
3/3/2012, 10:52 pm من طرف funkyodd@yahoo.com
» كتاب مادة الـ C ++ حصريا لشباب إنجاز
17/2/2012, 1:57 am من طرف anas yacoub
» حصريا .. كتب العلوم المالية والمصرفية
31/1/2012, 1:56 am من طرف Amera Alareqe
» دعاء مكتوب على جدار الجنة
13/11/2011, 3:25 pm من طرف سما الحب
» حكمه مهمه
6/11/2011, 7:49 pm من طرف عموره
» .....................................
16/10/2011, 6:22 am من طرف عموره
» هـــــــــنــالِــك دائِــمـــــــــاً....!!!!
16/10/2011, 6:20 am من طرف عموره
» تَباً
16/10/2011, 6:15 am من طرف عموره